فصل: حَادِثَةُ يُوسُفَ مَعَ امْرَأَةِ الْعَزِيزِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ومعنى الآية وجاءت جماعة مارة إلى هناك فارسلوا من يطلب لهم الماء فارسل دلوه في الجب ثم لما اخرجها فاجأهم بقوله يا بشرى هذا غلام وقد تعلق يوسف بالحبل فخرج فاخفوه بضاعة يقصد بها البيع والتجارة والحال ان الله سبحانه عليم بما يعملون يؤاخذهم عليه أو ان ذلك كان بعلمه تعالى وكان يسير يوسف هذا المسير ليستقر في مستقر العزة والملك والنبوة.
قوله تعالى: {وشروه بثمن بخس دراهم معدودة وكانوا فيه من الزاهدين} الثمن البخس هو الناقص عن حق القيمة ودراهم معدودة أي قليلة والوجه فيه على ما قيل انهم كانوا إذا كثرت الدراهم أو الدنانير وزنوها ولا يعدون الا القليلة منها والمراد بالدراهم النقود الفضية الدائرة بينهم يومئذ والشراء هو البيع والزهد هو الرغبة عن الشيء أو هو كناية عن الاتقاء.
والظاهر من السياق ان ضميري الجمع في قوله وشروه وكانوا للسيارة والمعنى ان السيارة الذين اخرجوه من الجب واسروه بضاعة باعوه بثمن بخس ناقص وهى دراهم معدودة قليلة وكانوا يتقون ان يظهر حقيقة الحال فينتزع هو من ايديهم.
ومعظم المفسرين على ان الضميرين لاخوة يوسف والمعنى انهم باعوا يوسف من السيارة بعد ان ادعوا انه غلام لهم سقط في البئر وهم انما حضروا هناك لاخراجه من الجب فباعوه من السيارة وكانوا يتقون ظهور الحال.
أو ان اول الضميرين للاخوة والثانى للسيارة والمعنى ان الاخوة باعوه بثمن بخس دراهم معدودة وكانت السيارة من الراغبين عنه يظهرون من انفسهم الزهد والرغبة لئلا يعلو قيمته أو يرغبون عن اشترائه حقيقة لما يحدسون ان الأمر لا يخلو من مكر وان الغلام ليس فيه سيماء العبيد.
وسياق الآيات لا يساعد على شيء من الوجهين فضمائر الجمع في الآية السابقة للسيارة ولم يقع للاخوة بعد ذلك ذكر صريح حتى يعود ضمير وشروه وكانوا أو احدهما إليهم على ان ظاهر قوله في الآية التالية: {وقال الذي اشتراه من مصر} انه اشتراه متحقق بهذا الشراء.
واما ما ورد في الروايات ان اخوة يوسف حضروا هناك واخذوا يوسف منهم بدعوى انه عبدهم سقط في البئر ثم باعوه منهم بثمن بخس فلا يدفع ظاهر السياق في الآيات ولا انه يدفع الروايات.
وربما قيل ان الشراء في الآية بمعنى الاشتراء وهو مسموع وهو نظير الاحتمالين السابقين مدفوع بالسياق.
قوله تعالى: {وقال الذي اشتراه من مصر لامراته اكرمي مثواه عسى ان ينفعنا أو نتخذه ولدا} السياق يدل على ان السيارة حملوا يوسف معهم إلى مصر وعرضوه هناك للبيع فاشتراه بعض اهل مصر وادخله في بيته.
وقد اعجبت الآيات في ذكر هذا الذي اشتراه وتعريفه فذكر فيها اولا بمثل قوله تعالى: {وقال الذي اشتراه من مصر} فانبأت انه كان رجلا من اهل مصر وثانيا بمثل قوله: {وألفيا سيدها لدى الباب} فعرفته بانه كان سيدا مصمودا إليه وثالثا: بمثل قوله: {وقال نسوة في المدينة امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه} فاوضحت انه كان عزيزا في مصر يسلم له اهل المدينة العزة والمناعة ثم اشارت إلى انه كان له سجن وهو من شؤن مصدرية الأمور والرئاسة بين الناس وعلم بذلك ان يوسف كان ابتيع اول يوم لعزيز مصر ودخل بيت العزة.
وبالجملة لم يعرف الرجل كل مرة في كلامه تعالى الا بمقدار ما يحتاج إليه موقف الحديث من القصة ولم يكن لاول مرة في تعريفه حاجة إلى ازيد من وصفه بانه كان رجلا من اهل مصر وبها بيته فلذا اقتصر في تعريفه بقوله: {وقال الذي اشتراه من مصر}.
وكيف كان الآية تنبئ على ايجازها بان السيارة حملوا يوسف معهم وادخلوه مصر وشروه من بعض اهلها فادخله بيته ووصاه امراته قائلا اكرمي مثواه عسى ان ينفعنا أو نتخذه ولدا والعادة الجارية تقضى ان لا يهتم السادة والموالي بامر ارقائهم دون ان يتفرسوا في وجه الرقيق آثار الاصالة والرشد ويشاهد في سيماه الخير والسعادة وعلى الخصوص الملوك والسلاطين والرؤساء الذين كان يدخل كل حين في بلاطاتهم عشرات ومآت من احسن افراد الغلمان والجوارى فما كانوا ليتولعوا في كل من اقتنوه ولا ليتولهوا كل من الفوه فكان لامر العزيز باكرام مثواه ورجاء الانتفاع به أو اتخاذه ولدا معنى عميق وعلى الاخص من جهة انه أمر بذلك امراته وسيدة بيته وليس من المعهود ان تباشر الملكات والعزيزات جزئيات الأمور وسفاسفها ولا ان تتصدى السيدات المنيعة مكانا امور العبيد والغلمان.
نعم ان يوسف عليه السلام كان ذا جمال بديع يبهر العقول ويوله الألباب وكان قد اوتى مع جمال الخلق حسن الخلق صبورا وقورا لطيف الحركات مليح اللهجة حكيم المنطق كريم النفس نجيب الأصل وهذه صفات لا تنمو في الإنسان الا واعراقها ناجمة فيه ايام صباوته وآثارها لائحة من سيماه من بادئ امره.
فهذه هي التي جذبت نفس العزيز إلى يوسف وهو طفل صغير حتى تمنى ان ينشأ يوسف عنده في خاصة بيته فيكون من اخص الناس به ينتفع به في اموره الهامة ومقاصده العالية أو يدخل في ارومته ويكون ولدا له ولامراته بالتبنى فيعود وارثا لبيته.
ومن هنا يمكن ان يستظهر ان العزيز كان عقيما لا ولد له من زوجته ولذلك ترجى ان يتبنى هو وزوجته يوسف.
فقوله: {وقال الذي اشتراه من مصر} أي العزيز لامراته وهى العزيزة: {اكرمي مثواه} أي تصدى بنفسك امره واجعلي له مقاما كريما عندك عسى ان ينفعنا في مقاصدنا العالية وامورنا الهامة أو نتخذه ولدا بالتبنى.
قوله تعالى: {وكذلك مكنا ليوسف في الأرض ولنعلمه من تأويل الاحاديث والله غالب على امره ولكن اكثر الناس لا يعلمون} قال في المفردات المكان عند اهل اللغة الموضع الحاوى للشئ قال ويقال مكنته ومكنت له فتمكن قال تعالى: {ولقد مكناهم في الأرض}، {ولقد مكناهم فيما ان مكناكم فيه}، {أو لم نمكن لهم} ونمكن لهم الأرض قال قال الخليل: المكان مفعل من الكون ولكثرته في الكلام اجرى مجرى فعال فقيل تمكن وتمسكن مثل تمنزل انتهى فالمكان هو مقر الشيء من الأرض والامكان والتمكين الاقرار والتقرير في المحل وربما يطلق المكان المكانة لمستقر الشيء من الأمور المعنوية كالمكانة في العلم وعند الناس ويقال امكنته من الشيء فتمكن منه أي اقدرته فقدر عليه وهو من قبيل الكناية.
ولعل المراد من تمكين يوسف في الأرض اقراره فيه بما يقدر معه على التمتع من مزايا الحياة والتوسع فيها بعد ما حرم عليه اخوته القرار على وجه الأرض فالقوه في غيابة الجب ثم شروه بثمن بخس ليسيربه الركبان من ارض إلى ارض ويتغرب عن ارضه ومستقر ابيه.
وقد ذكر تعالى تمكينه ليوسف في الأرض في خلال قصته مرتين احداهما بعد ذكر خروجه من غيابة الجب وتسيير السيارة اياه إلى مصر وبيعه من العزيز وهو قوله في هذه الآية: {ولقد مكنا ليوسف في الأرض} وثانيتهما بعد ذكر خروجه من سجن العزيز وانتصابه على خزائن ارض مصر حيث قال تعالى: {وكذلك مكنا ليوسف في الأرض يتبوء منها حيث يشاء} الآية 56 من السورة والعناية في الموضعين واحدة.
وقوله: {وكذلك مكنا ليوسف في الأرض} الإشارة إلى ما ذكره من اخراجه من الجب وبيعه واستقراره في بيت العزيز فان كان المراد من تمكينه في الأرض هذا المقدار من التمكين الذي حصل له من دخوله في بيت العزيز واستقراره فيه على اهناء عيش بتوصية العزيز فالتشبيه من قبيل تشبيه الشيء بنفسه ليدل به على غزارة الأوصاف المذكورة له وليس من القسم المذموم من تشبيه الشيء بنفسه كقوله كأننا والماء من حولنا * قوم جلوس حولهم ماء بل المراد ان ما فعلنا به من التمكين في الأرض كان يماثل هذا الذي وصفناه واخبرنا عنه فهو يتضمن من الأوصاف الغزيرة ما يتضمنه ما حدثناه فهو تلطف في البيان بجعل الشيء مثل نفسه بالتشبيه دعوى ليلفت به ذهن السامع إلى غزارة اوصافه واهميتها وتعلق النفس بها كما هو شأن التشبيه.
ومن هذا الباب قوله تعالى: {ليس كمثله شيء} الشورى: 11 وقوله تعالى: {لمثل هذا فليعمل العاملون} الصافات: 61 والمراد ان كل ما اتصف من الصفات بما اتصف به الله سبحانه لا يشبهه ولا يماثله شيء وان كل ما اشتمل من الصفات على ما اشتملت عليه الجنة وماثلها في صفاتها فليعمل العاملون لاجل الفوز به.
وان كان المراد بالتمكين مطلق تمكينه في الأرض فتشبيهه بما ذكر من الوصف من قبيل تشبيه الكلى ببعض افراده ليدل به على ان سائر الافراد حالها حال هذا الفرد أو تشبيه الكل ببعض اجزائه للدلالة على ان الاجزاء الباقية حالها حال ذاك الجزء المذكور فيكون المعنى كان تمكيننا ليوسف في الأرض يجرى على هذا النمط المذكور في قصة خروجه من الجب ودخوله مصر واستقراره في بيت العزيز على احسن حال فان اخوته حسدوه وحرموا عليه القرار على وجه الأرض عند ابيه فألقوه في غيابة الجب وسلبوه نعمة التمتع في وطنه في البادية وباعوه من السيارة ليغربوه من اهله فجعل الله سبحانه كيدهم هذا بعينه سببا يتوسل به إلى التمكن والاستقرار في بيت العزيز بمصر على احسن حال ثم تعلقت به امرأة العزيز وراودته هي ونسوة مصر ليوردنه في الصبوة والفحشاء فصرف الله عنه كيدهن وجعل ذلك بعينه وسيلة لظهور اخلاصه وصدقه في ايمانه ثم بدا لهم ان يجعلوه في السجن ويسلبوا عنه حرية معاشرة الناس والمخالطة لهم فتسبب الله سبحانه بذلك بعينه إلى تمكينه في الأرض تمكينا يتبوء من الأرض حيث يشاء لا يمنعه مانع ولا يدفعه دافع.
وبالجملة الآية على هذا التقدير من قبيل قوله تعالى: {كذلك يضل الله الكافرين} المؤمن: 74 وقوله: {كذلك يضرب الله الامثال} الرعد: 17 اي إن إضلاله تعالى للكافرين يجري دائما هذا المجرى، وضربه الامثال ابدا على هذا النحو من المثل المضروب وهو انموذج ينبغي أن يقاس إليه غيره.
وقوله: {ولنعلمه من تأويل الاحاديث} بيان لغاية التمكين المذكور واللام للغاية، وهو معطوف على مقدر والتقدير: مكنا له في الأرض لنفعل به كذا وكذا ولنعلمه من تأويل الاحاديث وإنما حذف المعطوف عليه للدلالة على أن هناك غايات اخر لا يسعها مقام التخاطب، ومن هذا القبيل قوله تعالى: {وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين} الأنعام: 75 ونظائره.
وقوله: {والله غالب على أمره ولكن اكثر الناس لا يعلمون} الظاهر أن المراد بالأمر الشأن وهو ما يفعله في الخلق مما يتركب منه نظام التدبير قال تعالى: {يدبر الأمر} يونس: 3 وأنما أضيف إليه تعالى لأنه مالك كل أمر كما قال تعالى: {ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين} الأعراف: 54.
والمعنى أن كل شأن من شؤن الصنع والايجاد من أمره تعالى وهو تعالى غالب عليه وهو مغلوب له مقهور دونه يطيعه فيما شاء، ينقاد له فيما أراد، ليس له أن يستكبر أو يتمرد فيخرج من سلطانه كما ليس له أن يسبقه تعالى ويفوته، قال تعالى: {إن الله بالغ أمره} الطلاق: 3.
وبالجملة هو تعالى غالب على هذه الأسباب الفعالة باذنه يحمل عليها ما يريده فليس لها إلا السمع والطاعة ولكن اكثر الناس لا يعلمون لحسبانهم ان الأسباب الظاهرة مستقلة في تأثيرها فعالة برؤوسها فإذا ساقت الحوادث إلى جانب لم يحولها عن وجهتها شيء وقد اخطأوا. اهـ.

.قال صاحب المنار في الآيات السابقة:

{وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَابُشْرَى هَذَا غُلَامٌ}.
هَاتَانِ الْآيَتَانِ فِيَ اسْتِعْبَادِ قَافِلَةٍ مِنَ التُّجَّارِ لِيُوسُفَ عليه السلام وَالِاتِّجَارِ بِهِ.
{وَجَاءَتْ} ذَلِكَ الْمَكَانَ الَّذِي كَانُوا فِيهِ {سَيَّارَةٌ} صِيغَةُ مُبَالَغَةٍ مِنَ السَّيْرِ (كَجَوَّالَةٍ، وَكَشَّافَةٍ) أَيْ جَمَاعَةٌ أَوْ قَافِلَةٌ. وَفِي سِفْرِ التَّكْوِينِ أَنَّهُمْ كَانُوا مِنَ الْإِسْمَاعِيلِيِّينَ أَيْ مِنَ الْعَرَبِ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمُ الْمُخْتَصَّ بِوُرُودِ الْمَاءِ لِلِاسْتِقَاءِ لَهُمْ {فَأَدْلَى دَلْوَهُ} أَيْ أَرْسَلَهُ وَدَلَّاهُ فِي ذَلِكَ الْجُبِّ فَتَعَلَّقَ بِهِ يُوسُفُ، فَلَمَّا خَرَجَ وَرَآهُ قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلَامٌ يُبَشِّرُ بِهِ جَمَاعَتَهُ السَّيَّارَةَ قَرَأَهَا الْجُمْهُورُ {يَا بُشْرَايَ} بِالْإِضَافَةِ إِلَى يَاءِ الْمُتَكَلِّمِ، وَالْكُوفِيُّونَ بِدُونِهَا، وَأَمَالَ أَلِفَهَا حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ. وَنِدَاءُ الْبُشْرَى مَعْنَاهُ أَنَّ هَذَا وَقْتُهَا وَمُوجِبُهَا فَقَدْ آنَ لَهَا أَنْ تَحَضُرَ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُمْ: يَا أَسَفَى وَيَا أَسَفِي، وَيَا حَسْرَتَا وَيَا حَسْرَتِي، إِذَا وَقَعَ مَا هُوَ سَبَبٌ لِذَلِكَ. فَاسْتَبْشَرَ بِهِ السَّيَّارَةُ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً أَيْ أَخْفَوْهُ مِنَ النَّاسِ لِئَلَّا يَدَّعِيَهُ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ ذَلِكَ الْمَكَانِ؛ لِأَجْلِ أَنْ يَكُونَ بِضَاعَةً لَهُمْ مِنْ جُمْلَةِ تِجَارَتِهِمْ، وَالْبِضَاعَةُ مَا يُقْطَعُ مِنَ الْمَالِ وَيُفْرَزُ لِلِاتِّجَارِ بِهِ، مُشْتَقٌّ مِنَ الْبَضْعِ وَهُوَ الشَّقُّ وَالْقَطْعُ، وَمِنْهُ الْبَضْعَةُ وَالْبِضْعُ مِنَ الْعَدَدِ وَهِيَ مِنْ ثَلَاثٍ إِلَى تِسْعٍ، وَالْبَضْعَةُ مِنَ اللَّحْمِ وَهِيَ الْقِطْعَةُ. وَمَا قِيلَ مِنْ أَنَّ الَّذِينَ أَسَرُّوهُ هُمُ الْوَارِدُ الَّذِي اسْتَخْرَجَهُ وَمَنْ كَانَ مَعَهُ دُونَ سَائِرِ السَّيَّارَةِ، أَوْ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي: {وَأَسَرُّوهُ} لِإِخْوَةِ يُوسُفَ فَهُوَ خِلَافُ الظَّاهِرِ {وَاللهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} أَيْ بِمَا يَعْمَلُهُ هَؤُلَاءِ السَّيَّارَةُ وَمَا يَعْمَلُهُ إِخْوَةُ يُوسُفَ، فَلِكُلٍّ مِنْهُمْ أَرَبٌ فِي يُوسُفَ: السَّيَّارَةُ يَدَّعُونَ بِالْبَاطِلِ أَنَّهُ عَبْدٌ لَهُمْ فَيَتَّجِرُونَ بِهِ، وَإِخْوَةُ يُوسُفَ أَمْرُهُمْ مَعَ أَبِيهِمْ فِي إِخْفَائِهِ وَتَغْرِيبِهِ وَدَعْوَى أَكْلِ الذِّئْبِ إِيَّاهُ مَعْلُومٌ وَأَنَّهُ كَيْدٌ بَاطِلٌ، وَحِكْمَةُ اللهِ تَعَالَى فِيهِ فَوْقَ كُلِّ ذَلِكَ.
{وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ} شَرَى الشَّيْءَ يَشْرِيهِ بَاعَهُ وَاشْتَرَاهُ ابْتَاعَهُ، أَيْ بَاعُوهُ بِثَمَنٍ قَلِيلٍ نَاقِصٍ عَنْ ثَمَنِ مِثْلِهِ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ مِثْلٌ، هُوَ دَرَاهِمُ لَا دَنَانِيرُ، مَعْدُودَةٌ لَا مَوْزُونَةٌ، وَإِنَّمَا يُعَدُّ الْقَلِيلُ، وَيُوزَنُ الْكَثِيرُ، وَكَانَتِ الْعَرَبُ تَزِنُ مَا بَلَغَ الْأُوقِيَّةَ وَهِيَ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا فَمَا فَوْقَهَا وَتُعَدُّ مَا دُونَهَا، وَلِهَذَا يُعَبِّرُونَ عَنِ الْقَلِيلَةِ بِالْمَعْدُودَةِ، وَالْبَخْسُ فِي اللُّغَةِ النَّاقِصُ وَالْمَعِيبُ {وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ} 7: 85 وَرُوِيَ تَفْسِيرُهُ هُنَا بِالْحَرَامِ وَبِالظُّلْمِ لِأَنَّهُ بَيْعُ حُرٍّ، فَيَكُونُ وَصْفُهُ بِدَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ مُسْتَقِلًّا لَا تَفْسِيرًا لِبَخْسٍ، وَظَاهِرُ النَّظْمِ أَنَّ الَّذِينَ شَرَوْهُ هُمُ السَّيَّارَةُ. وَفِي سِفْرِ التَّكْوِينِ أَنَّ إِخْوَتَهُ قَرَّرُوا بَيْعَهُ لِلْإِسْمَاعِيلِيِّينَ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ مِنَ الْجُبِّ جَمَاعَةٌ مِنْ مَدْيَنَ وَبَاعُوهُ لَهُمْ وَقَدْ بَعُدَ ذِكْرُهُمْ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لَفْظُ وَشَرَوْهُ وَقَدِ اسْتُعْمِلَ بِمَعْنَى اشْتَرَوْهُ وَهُوَ مَسْمُوعٌ، وَيَكُونُ الْمُرَادُ أَنَّهُمُ اشْتَرَوْهُ مِنْ إِخْوَتِهِ بِثَمَنٍ بَخْسٍ ثُمَّ بَاعُوهُ فِي مِصْرَ بِثَمَنٍ بَخْسٍ أَيْضًا، وَهُوَ إِدْمَاجٌ مِنْ دَقَائِقِ الْإِيجَازِ، وَأَمَّا الثَّمَنُ الْبَخْسُ الَّذِي بِيعَ بِهِ فَفِي سِفْرِ التَّكْوِينِ أَنَّهُ كَانَ عِشْرِينَ (شَاقِلًا) مِنَ الْفِضَّةِ، وَقَدَّرَ عُلَمَاءُ التَّارِيخِ الْقَدِيمِ الشَّاقِلَ بِخَمْسَةَ عَشَرَ غَرَامًا مِنَ الْوَزْنِ الْعَشْرِيِّ اللَّاتِينِيِّ الْمَعْرُوفِ فِي عَصْرِنَا فَيَكُونُ ثَمَنُهُ 300 غَرَامٍ مِنَ الْفِضَّةِ، وَهِيَ تَقْرُبُ مِنْ 94 دِرْهَمًا مِنْ دَرَاهِمِنَا الْيَوْمَ، وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه أَنَّهُ عِشْرُونَ دِرْهَمًا وَلَعَلَّهُ سَمِعَهُ عَنِ الْيَهُودِ فَظَنَّ أَنَّ الْعِشْرِينَ عِنْدَهُمْ هِيَ الدَّرَاهِمُ عِنْدَ الْعَرَبِ {وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ} أَيْ وَكَانَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ بَاعُوهُ مِنَ الرَّاغِبِينَ عَنْهُ الَّذِينَ يَبْغُونَ الْخَلَاصَ مِنْهُ لِئَلَّا يَظْهَرَ مَنْ يُطَالِبُهُمْ بِهِ لِأَنَّهُ حُرٌّ، وَالثَّمَنُ لَمْ يَكُنْ مَقْصُودًا لَهُمْ وَلِهَذَا قَنَعُوا بِالْبَخْسِ مِنْهُ.

.حَادِثَةُ يُوسُفَ مَعَ امْرَأَةِ الْعَزِيزِ:

{وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَاللهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ}.
هَاتَانِ الْآيَتَانِ تَمْهِيدٌ لِلْقِصَّةِ فِي وِجْهَةِ نَظَرِ مُشْتَرِيهِ فِيهِ، وَتَمْكِينِ اللهِ لَهُ وَتَعْلِيمِهِ وَغَلَبِهِ عَلَى أَمْرِهِ وَإِيتَائِهِ حُكْمًا وَعِلْمًا وَشَهَادَتِهِ بِإِحْسَانِهِ.
{وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ} لَمْ يُبَيِّنِ الْقُرْآنُ اسْمَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنَ السَّيَّارَةِ فِي مِصْرَ وَلَا مَنْصِبَهُ وَلَا اسْمَ امْرَأَتِهِ؛ لِأَنَّ الْقُرْآنَ لَيْسَ كِتَابَ حَوَادِثٍ وَتَارِيخٍ، وَإِنَّمَا قَصَصُهُ حِكَمٌ وَمَوَاعِظُ وَعِبَرٌ وَتَهْذِيبٌ، وَلَكِنَّ وَصْفَهُ النِّسْوَةِ فِيمَا يَأْتِي بِلَقَبِ الْعَزِيزِ- وَهُوَ اللَّقَبُ الَّذِي صَارَ لَقَبَ يُوسُفَ بَعْدَ أَنْ تَوَلَّى إِدَارَةَ الْمُلْكِ فِي مِصْرَ- فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَقَبُ أَكْبَرِ وُزَرَاءِ الْمَلِكِ. وَلِلْمُفَسِّرِينَ أَقْوَالٌ فِي اسْمِهِ وَاسْمُ مَلِكِ مِصْرَ لَيْسَ لِلْقُرْآنِ شَأْنٌ فِيهَا. وَفِي سِفْرِ التَّكْوِينِ أَنَّهُ كَانَ رَئِيسَ الشُّرْطِ وَحَامِيَةَ الْمَلِكِ وَنَاظِرَ السُّجُونِ، وَأَنَّ اسْمَهُ فُوطِيفَارُ، وَوُصِفَ فِيهِ بِالْخَصْيِ، وَلَكِنَّ الْخِصْيَانَ لَا يَكُونُ لَهُمْ أَزْوَاجٌ. فَقِيلَ فِي تَصْحِيحِهِ: لَعَلَّهُ لَقَبٌ لَا يُقْصَدُ بِهِ هَذَا الْمَعْنَى. وَقَدْ تَفَرَّسَ هَذَا الْوَزِيرُ الْكَبِيرُ فِي يُوسُفَ أَصْدَقَ الْفِرَاسَةِ إِذْ وَصَّى امْرَأَتَهُ بِإِكْرَامِ مَثْوَاهُ، وَالْمَثْوَى: مَصْدَرٌ وَاسْمُ مَكَانٍ مِنْ ثَوَى بِالْمَكَانِ يَثْوِي كَرَمَى يَرْمِي ثَوَّاءَ أَيْ أَقَامَ، فَتَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْوَصِيَّةُ إِكْرَامَهُ وَحُسْنَ مُعَامَلَتِهِ فِي كُلِّ مَا يَخْتَصُّ بِإِقَامَتِهِ، بِحَيْثُ يَكُونُ كَوَاحِدٍ مِنْهُمْ وَلَا يَكُونُ كَالْعَبِيدِ وَالْخَدَمِ، وَعَلَّلَ ذَلِكَ بِمَا يَدُلُّ عَلَى أَمَلِهِ وَرَجَائِهِ فِيهِ وَهُوَ: {عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا} بِالْقِيَامِ بِبَعْضِ شُئُونِنَا الْخَاصَّةِ أَوْ شُئُونِ الدَّوْلَةِ الْعَامَّةِ لِمَا يَلُوحُ عَلَيْهِ مِنْ مَخَايِلِ الذَّكَاءِ وَالنَّبَاهَةِ {أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا} فَيَكُونُ قُرَّةَ عَيْنٍ لَنَا وَوَارِثًا لِمَجْدِنَا وَمَالِنَا، إِذَا تَمَّ رُشْدَهُ وَصَدَقَتْ فِرَاسَتِي فِي نَجَابَتِهِ، وَفُهِمَ مِنْ هَذَا الرَّجَاءِ أَنَّ الْعَزِيزَ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَمَا كَانَ يَرْجُو أَنْ يَكُونَ لَهُ، وَرُوِيَ أَنَّهُ كَانَ عَقِيمًا. وَكَانَ رَجَاؤُهُ هَذَا كَرَجَاءِ امْرَأَةِ فِرْعَوْنَ مُوسَى فِيهِ مِنْ بَعْدِهِ، وَكَانَتْ صَالِحَةً مُلْهَمَةً، وَأَمَّا الْعَزِيزُ فَكَانَ ذَكِيًّا صَادِقَ الْفِرَاسَةِ فَاسْتَدَلَّ مِنْ كَمَالِ خَلْقِ يُوسُفَ وَخُلُقِهِ، وَذَكَائِهِ وَحُسْنِ خِلَالِهِ، عَلَى أَنَّ حُسْنَ عِشْرَتِهِ وَكَرَمَ وِفَادَتِهِ وَشَرَفَ تَرْبِيَتِهِ، خَيْرٌ مُتَمَّمٌ لِحُسْنِ اسْتِعْدَادِهِ الْفِطْرِيِّ، إِذْ لَا يُفْسِدُ أَخْلَاقَ الْأَذْكِيَاءِ إِلَّا الْبِيئَةُ الْفَاسِدَةُ وَسُوءُ الْقُدْوَةِ، وَمَا كَانَ إِلَّا صَادَقَ الْفِرَاسَةِ {وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ} أَيْ وَعَلَى هَذَا النَّحْوِ مِنَ التَّدْبِيرِ وَالتَّسْخِيرِ جَعَلْنَا لِيُوسُفَ مَكَانَةً عَالِيَةً فِي أَرْضِ مِصْرَ، كَانَ هَذَا الْعَطْفُ عَلَيْهِ وَالرَّجَاءُ فِيهِ مِنْ هَذَا الْعَزِيزِ مَبْدَأَهَا؛ لِيَقَعَ لَهُ فِي بَيْتِهِ ثُمَّ فِي السِّجْنِ مَا يَقَعُ مِنَ التَّجَارِبِ، وَالِاتِّصَالِ بِسَاقِي الْمَلِكِ فَيَكُونُ وَسِيلَةً لِلْوُصُولِ إِلَيْهِ {وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ} كَتَعْبِيرِ الرُّؤْيَا وَمَعْرِفَةِ حَقَائِقِ الْأُمُورِ مَا يَنْتَهِي بِهِ إِلَى الْغَايَةِ مِنْ هَذَا التَّمْكِينِ، وَقَوْلُهُ لِلْمَلِكِ: {اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} 55 وَقَوْلُ الْمَلِكِ لَهُ: {إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ} 54، {وَاللهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ} أَيْ عَلَى كُلِّ أَمْرٍ يُرِيدُهُ وَيُقَدِّرُهُ، فَلَا يُغْلَبُ عَلَى شَيْءٍ مِنْهُ بَلْ يَقَعُ كَمَا أَرَادَ، فَكُلُّ مَا وَقَعَ لِيُوسُفَ مِنْ إِخْوَتِهِ وَمِنْ مُسْتَرِقِّيهِ وَبَائِعِيهِ، وَمِنْ تَوْصِيَةِ الَّذِي اشْتَرَاهُ لِامْرَأَتِهِ بِإِكْرَامِ مَثْوَاهُ مِمَّا وَقَعَ لَهُ مَعَ هَذِهِ الْمَرْأَةِ وَفِي السِّجْنِ، قَدْ كَانَ مِنْ أَسْبَابِ مَا أَرَادَهُ تَعَالَى لَهُ مِنْ تَمْكِينِهِ فِي الْأَرْضِ، وَإِنْ كَانَ ظَاهِرُهُ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: وَاللهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِ يُوسُفَ، فَهُوَ يُدَبِّرُهُ وَيُلْهِمُهُ الْخَيْرَ وَلَا يَكِلُهُ إِلَى تَدْبِيرِ نَفْسِهِ وَاتِّبَاعِ هَوَاهُ {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} أَنَّهُ تَعَالَى غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ بَلْ يَأْخُذُونَ بِظَوَاهِرِ الْأُمُورِ، كَمَا اسْتَدَلَّ إِخْوَةُ يُوسُفَ بِإِبْعَادِهِ عَلَى أَنْ يَخْلُوَ لَهُمْ وَجْهُ أَبِيهِمْ وَيَكُونُوا مِنْ بَعْدِ بُعْدِهِ عَنْهُمْ قَوْمًا صَالِحِينَ، وَيُقَالُ الْأَكْثَرُ فِي هَذَا الْمَقَامِ يَعْقُوبُ عليه السلام فَقَدْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّ اللهَ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ، وَأَقْوَالُهُ صَرِيحَةٌ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى عِلْمِهِ مَا تَقَدَّمَ مِنْهَا وَمَا تَأَخَّرَ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ، وَلَكِنَّ عِلْمَهُ كُلِّيٌّ إِجْمَالِيٌّ لَا يُحِيطُ بِتَفْصِيلِ الْجُزْئِيَّاتِ الْمَخْبُوءَةِ فِي مَطَاوِي الْأَقْدَارِ كَمَا قُلْنَا مِنْ قَبْلُ.